سورة الأحزاب - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحزاب)


        


{لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا(60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا(61)}
المتتبع لموكب الرسالات يجد أن الرسل واجهوا في نشر رسالتهم ثلاثة أصناف من البشر: صنف آمن، وصنف كفر، وصنف وقف متردداً بين الكفر والإيمان، وهؤلاء هم المنافقون.
ذلك؛ لأن الرسول حين يُبعث إنما يُبعَث لتغيير وضع اجتماعي بلغ من السوء درجةً لا يحتملها الناس، فالذي يعاني من هذا الوضع ينتظر هذا الرسول الجديد، فما أنْ يُبعث حتى يبادر إلى الإيمان به؛ لأنه جاء بمباديء جديدة، لا ظُلْم فيها، ولا قهر، ولا استبداد، ولا رشوة، ولا فساد.
إذن: مَنْ عضته هذه الأحداث، وشقى بهذا الفساد سارع إلى الإيمان، وكذلك آمن أهل مصر، وما إنْ دخلها الإسلام حتى أسرعوا إليه، لماذا؟ لأنهم شَقُوا قبله بحكم الرومان، وكذلك آمن الفُرْس بمجرد أنْ سمعوا بالإسلام، ورأوا الأسوة الحسنة في المسلمين بعد أنْ عَضَّهم فساد غير المسلمين.
ساعة يشْقَى الناسُ بفساد الأوضاع يتطلَّعون إلى منقذ، فإنْ جاءهم اتبعو، خاصة إنْ كان منهم وله فيهم مَاضٍ مُشرِّف لم يُجربوا عليه كذباً ولا نقيصة.
وهذا ما رأيناه مثلاً في قصة إسلام سيدنا أبي بكر، فما أنْ أعلن محمد أنه رسول الله حتى سارع إلى الإيمان به دون أنْ يسأله عن شيء، لماذا؟ لأنه عرف صِدْقه، وعرف أمانته، ووثق من ذلك.
ومثله كان إيمان السيدة خديجة- رضي الله عنها- فما إنْ جاءها رسول الله مُضطرباً مما لاقى من نزول المَلك عليه حتى احتضنته، وهدَّأتْ من رَوْعه، وأنصفته، وذهبتْ به إلى ورقة بن نوفل لتثبت له أنه على الحق، وأن الله تعالى لن يُسلمه ولن يتخلى عنه.
وكان مما قالتْ: (والله إنك لتقري الضيف، وتحمل الكلَّ، وتُكسِب المعدوم، وتعين على نوائب الدهر...).
لذلك قال العلماء: إن السيدة خديجة كانت أول فقيهة في الإسلام قبل أنْ ينزل الإسلام.
وطبيعي أن يكون أهل الفساد والمستفيدون منه على النقيض، فهم ينتفعون بالفساد والاستبداد، ويريدون أن تظلَّ لهم سيادتهم ومكانتهم، وأنْ يظل الناسُ عبيداً لهم، يأكلون خيراتهم ويستذلونهم.
وهؤلاء الذين استعبدوا الناس، وجعلوا من أنفسهم سادةً بل آلهة، ويعلمون أن الرسول ما جاء إلا للقضاء على سيادتهم وألوهيتهم الكاذبة، هؤلاء لابد أن يصادموا الدعوة، لابد أنْ يكفروا بها، وأن يحاربوها، حِفَاظاً على سيادتهم وسلطتهم الزمنية.
وعجيب أن نرى من عامة الناس مَنْ أَلِف هذه العبودية، ورضي هذه المذلة، واكتفى بأنْ يعيش في كَنَف هؤلاء السادة مهما كانت التبعاتُ، هؤلاء وأمثالهم هم الذين كقالوا: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31].
فبعد أنْ جاءهم الرسول المنقذ ما زالوا يتطلعون إلى عظيم يستعبدهم.
وكلٌّ من هذيْن الفريقين(المؤمن، والكافر) كان منطقياً مع نفسه، فالمؤمن آمن بقلبه، ونطلق بلسانه، والكافر كفر بقلبه، وكفر بلسانه، والكافر كفر بقلبه، وكفر بلسانه، لأنه لم ينطق بكلمة التوحيد، والإنسان قلبٌ وقالبٌ، ولابد في الإيمان أنْ يوافق القالبُ ما في القلب.
أما الصنف الثالث وهو المنافق، فليس منطقياً مع نفسه، لأنه آمن بلسانه، ولم يؤمن بقلبه، فهو جبان يُظهر لك الحب، ويُضمِر الكره؛ لذلك جعلهم الله في الدَّرْك الأسفل من النار.
لذلك، فالعرب لما سألهم رسول الله أنْ يقولوا: لا إله إلا الله، ليبطل بها سيادة زعماء الكفر أبوْا أن يقولوها، لماذا؟ لأنهم يعلمون أنها ليست كلمة تُقال، إنما لها تبعات، ويترتب عليها مسئوليات لا يقدرون هم على القيام بها، ولو أنها كلمة تُقَال لقالوها، وانتهى العداء بينهم وبين رسول الله.
فمعنى لا إله إلا الله: لا عبودية إلا لله، ولا خضوعَ إلا لله، ولا تشريعَ إلا لله، ولا نافع إلا الله... إلخ، وكيف تستقيم هذه المعاني مع مَنْ أَلِف العبودية والخضوع لغير الله؟
والحق تبارك وتعالى لما تكلّم هنا عن المنافقين خَصَّ المدينة، فقال سبحانه: {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ والمرجفون فِي المدينة...} [الأحزاب: 60] فالنفاق لم يظهر في مكة، وهي مَعْقل الكفر والأصنام، إنما ظهر في المدينة، وهي التي آوَتْ مهاجري رسول الله، وكان غالبية أهلها من أهل الكتاب، وهم أقرب إلى الإيمان من الكفار، فلماذا هذه الظاهرة؟
قالوا: إن الإسلام كان ضعيفاً في مكة، وصار قوياً في المدينة، فالنفاق ظاهرة صحية للإسلام؛ لأنه لولا قوته ما نافقه المنافقون، فظهور النفاق في المدينة دليل على قوة الإسلام فيها، وأنه صارت له شوكة، وصارت له سطوة؛ لذلك نافق ضعافُ الإيمان؛ ليأخذوا خير الإسلام، وليحتموا بحماه، وإلا فالضعيفُ لا يُنَافَق.
نعم، ظهر النفاق في المدينة التي قال الله في حق أهلها: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ...} [الحشر: 9].
ويقول عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جُحْرها».
وأيضاً القرآن هو الذي قال عن أهل المدينة: {وَمِنْ أَهْلِ المدينة مَرَدُواْ عَلَى النفاق...} [التوبة: 101] وهذا ليس استضعافاً للمدينة، إنما إظهار لقوة الإسلام فيها، بحيثُ أصبحتْ له سطوة وقوة تُنافَق.
هنا قوله تعالى: {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون...} [الأحزاب: 60] ساعة تسمع {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ...} [الأحزاب: 60] فاعلم أن الله تعالى أقسم بشيء وهذا القول هو جواب القسم، والحق سبحانه لا يُقسِم إلا على الشيء العظيم، ونحن البشر نُقسِم لنؤكد كلامنا، كما تقول: والله إنْ ما حدث من فلان كذا وكذا سأفعل كذا وكذا.
أما الحق سبحانه، فكلامه صادق ونافذ دون قَسَم، فما بالُكَ إنْ أقسم؟ لذلك يقول بعض العارفين إذ سمع الله تعالى يُقسِم: مَنْ أغضب الكريم حتى ألجأه أن يقسم؟
كلمة {المنافقون...} [الأحزاب: 60] مفردها منافق، مأخوذ من نَافَقاء اليربوع، واليربوع حيوان صغير يشبه الفأر، يعرفه أهل البادية، يعيش في جحور، فيترصدونه ليصطادوه ساعة يخرج من جٌحْره، لكن هذا الحيوان الصغير فيه لُؤْم ودهاء، فماذا يفعل؟ يجعل لجُحْره مدخلين، واحد معروف، والآخر مستتر بشيء، فإذا أحس بالصياد على هذا المدخل ذهب إلى المدخل الآخر؛ لذلك أشبه المنافق تماماً الذي له قلب كافر ولسان مؤمن.
وتلحظ أن المنافقين وصفهم الله هنا بصفات ثلاث {المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ والمرجفون فِي المدينة...} [الأحزاب: 60] فالعطف هنا لا يقتضي المغايرة، إنما عطف صفات مختلفة لشيء واحد، وجاءتْ هذه الصفات مستقلةً؛ لأنها أصبحتْ من الوضوح فيهم، بحيث تكاد تكون نوعاً منفرداً بذاته.
وقد وصف القرآن في موضع آخر المنافقين بأن في قلوبهم مرضاً، فقال سبحانه: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله وباليوم الآخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ الله والذين آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 8-10].
وفي هذا دليل على أن الواو هنا أفادت عطف صفة على صفة، لا طائفة على طائفة، ومِثْله العطف في قوله تعالى: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان...} [الحشر: 9] فالدار أي المدينة، وكذلك الإيمان يُراد به المدينة أيضاً.
ومعنى {والمرجفون...} [الأحزاب: 60] المرجف من الإرجاف، وهو الهزَّة العنيفة التي تزلزل، ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة تَتْبَعُهَا الرادفة} [النازعات: 7] فالمرجفون هم الذين يحاولون زلزلة الشيء الثابت، وزعزعة الكيان المستقر، كذلك كان المنافقون كلما رأو للإسلام قوةً حاولوا زعزتها وهزّها لإضعافه والقضاء عليه.
وهؤلاء هم الذين نسميهم في التعبير السياسي الحديث(الطابور الخامس)، وهم الجماعة الذين يُروِّجحون الإشاعات، ويذيعون الإباطيل التي تُضِعف التيار العام وتهدد استقراره.
وكثيراً ما قعد المنافقون يقولون: إن قبيلة فلان وقبيلة فلان اجتمعوا للهجوم على المدينة والقضاء على محمد ورسالته، وهدفهم من هذه الإشاعات إضعاف وهزيمة الروح المعنوية لدى المسلمين الجدد والمستضعفين منهم.
حتى على مستوى الأفراد، كانوا يذهبون إلى مَنْ يفكر في الإسلام، أو يرون أنه ارتاح إليه، فيقولون له: ألم تعلم أن فلاناً أخذه قومه، أو أخذه سيده وعذَّبه حتى الموت لأنه اتبع محمداً، ذلك ليصرفوا الناس عن دين الله.
إذن: المرجِفُ يعني الذي يمشي بالفتنة والأكاذيب؛ ليصرف أهل الحق عن حقهم، بما يُشيع من بهتان وأباطيل.
لذلك يهددهم الحق سبحانه: لئن لم ينته هؤلاء المنافقون عن الإرجاف في المدينة وتضليل الناس لَيكُونَنَّ لنا معهم شأن آخر، كان هذا وقت مهادنة ومعاهدة بين المسلمين واليهود وأتباعهم من المنافقين، وكأن الله تعالى يقول: لقد سكتنا على جرائمهم إلى أنْ قويَتْ شوكة الإسلام، أما وقد صار للإسلام شوكة فإنْ نقضوا عهدهم معنا فسوف نواجههم.
وعجيب من هؤلاء المرجفين أنْ يظنُّوا أن الله لا يعلم أباطيلهم، ولا يعلمها رسوله، والله تعالى يقول: {أَمْ حَسِبَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ الله أَضْغَانَهُمْ وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول والله يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 29-30].
ومعنى لحن القول: أن يميلوا عن غير معناه، ومن ذلك قولهم في السلام على رسول الله: السام عليكم، والسام هو الموت، وكما لووا ألسنتهم بكلمة(راعنا) فقالوا: راعونا يقصدون الرعونة.
وأغرب من ذلك ما حكاه القرآن عنهم: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ...} [المجادلة: 8] فهذا القول منهم دليل على غبائهم. أولاً: لأنهم يتمنوْنَ العذاب.
ثانياً: لأنهم قالوا ذلك في أنفسهم لم يقولوا للناس، ولم يقولوا حتى لبعضهم البعض؛ لأن(يقولون) جمع، و(في أنفسهم) جمع، فكأن كلاً منهم كان يقول ذلك في نفسه.
إذن: ألم يسأل واحد منهم نفسه: مَنِ الذي أعلم رسولَ الله بما في نفسي؟ أَلاَ يدل ذلك على أن محمداً موصول بربه، وأنه لابد فاضحهم، وكاشفٌ مكنونات صدورهم، إذن: هذا غباء منهم.
والمتتبع لتاريخ اليهود والمنافقين في المدينة يجد أن الإسلام لم يأخذهم على غرَّة، إنما أعطاهم العهد وأمنَّهم ووسَّع لهم في المسكن والمعيشة طالما لم يُؤذُوا المسلمين، لكن بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يتناجوْنَ بالإثم والعدوان، فبعث إليهم ونهاهم عن التناجي بالإثم والعدوان، لكنهم عادوا مرة أخرى، كما قال القرآن عنهم {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ...} [المجادلة: 8].
إذن: لم يَبْقَ إلا المواجهة على حَدِّ قول الشاعر:
أَنَاةٌ فإنْ لَمْ تُغْنِ عقَّبَ بَعْدهَا *** وَعيداً فإنْ لم يُغْنٍ أغنَتْ عَزَائمهُ
لذلك يأتي جواب الشرط: {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ والمرجفون فِي المدينة لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ...} [الأحزاب: 60].
فجواب الشرط: {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ...} [الأحزاب: 60] من الإغراء، وهو باب من أبواب الدراسات النحوية اسمه الإغراء، ويقابله التحذير، الإغراء: أنْ تحمل المخاطب وتُحبِّبه في أمر محبوب ليفعله، كما تقول لولدك مثلاً: الاجتهادَ الاجتهادَ.
أما التحذير فأنْ تُخوِّفه من أمر مكروه ليجتنبه، كما تقول: الأسدَ الأسدَ، أو الكسلَ الكسلَ.
فمعنى {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ...} [الأحزاب: 60] أي: نُسلِّطك عليهم، ونُغريك بمواجهتهم والتصدِّي لهم، فكأن هذه المواجهة صارتْ أمراً محبوباً يُغْري به؛ لأنها ستكون جزاءَ ما فزَّعوك وأقلقوك.
وما دمنا سنسلطك عليهم، وما دمتم ستصيرون إلى قوة وشوكة تُغري بعدوها، فلن يستطيعوا البقاء معكم في المدينة.
{ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب: 60] أي: في المدينة، وكلمة {إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب: 60] يمكن أنْ يكون المعنى: قليل منهم، أو قليل من الزمن ريَثْما يجدوا لهم مكاناً آخر، يرحلون إليه مُشيَّعين بلعنة الله.
{مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثقفوا أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً} [الأحزاب: 61].
الملعون: المطرود من رحمة الله، أو مطرودون من المدينة بعد أنْ كشف الله دخائلَ نفوسهم الخبيثة؛ لذلك طردهم رسول الله من المسجد؛ لأنهم كانوا من خُبْثهم ولُؤْمهم يدخلون المسجد، بل ويُصلُّون في الصف الأول، يظنون أن ذلك يستر نفاقهم.
لكن رسول الله كان يطردهم بالاسم: يا فلان، يا فلان، فكان صلى الله عليه وسلم يعرفهم، ولم لا وقد قال الله له: {وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ...} [محمد: 30].
ومعنى {أَيْنَمَا ثقفوا..} [الأحزاب: 61] أي: وُجِدوا {أُخِذُواْ...} [الأحزاب: 61] أي: أُسِروا {وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً} [الأحزاب: 61] ولاحظ المبالغة في {وَقُتِّلُواْ...} [الأحزاب: 61] والتوكيد في {تَقْتِيلاً} [الأحزاب: 61] يعني: اقتلوهم بعنف، ولا تأخذكم فيهم رحمة جزاءَ ما ارتكبوه في حق الإسلام والمسلمين.
ولأن المنافق الذي طُبع على النفاق صارت طبيعته مسمونة مُلوّثة لا تصفو أبداً، فالنفاق في دمه يلازمه أينما ذهب، ولابد أنْ ينتهي أمره إلى الطرد من أي مكان يحل فيه.
لذلك، فمع أن الله تعالى قطَّعهم في الأرض أمماً، إلا أن كل قطعة منهم في بلد من البلاد لها تماسك فيما بينها، بحيث لا يذوبون في المجتمعات الأخرى فتظل لهم أماكن خاصة تُعرف بهم، وفي كل البلاد تعرف حارة اليهود، لكن لابد أنْ يكتشف الناس فضائحهم، وينتهي الأمر بطردهم وإبادتهم، وآخر طرد لهم ما حدث مثلاً في ألمانيا.
وصدق الله حين قال فيهم: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة مَن يَسُومُهُمْ سواء العذاب} [الأعراف: 167].
ثم يقول الحق سبحانه: {سُنَّةَ الله فِي الذين...}.


{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا(62)}
بعد أن بيَّن الحق سبحانه نهاية أعدائه بالتقتيل وانتصار رسوله صلى الله عليه وسلم، أوضح أن هذا ليس شيئاً جديداً في موكب الرسالات، إنما هي سنة متُبعة ومتواترة، وهل رأيتم في موكب الرسالات رسولاً أرسله الله، ثم خذله أو تخلى عنه، وانتهى أمره بنصر أعدائه عليه؟
والسنة: هي الطريقة الفِطْرية الطبيعية المتواترة التي لا تتخلَّف أبداً، فالأمر إذا حدث مرة أو مرتين لا يسمى سُنة، فالسنة إذن لها رتابة واستدامة.
فالمراد بالسنة هنا غَلَبة الحق على الباطل {فِي الذين خَلَوْاْ...} [الأحزاب: 62] يعني: الذين مَضَوْا من الأمم السابقة، وما زالتْ سنة الله في نصر الحق قائمة، وستظل إلى قيام الساعة؛ لأنها سنة.
{وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 62] نعم لا تتبدل ولا تتغير؛ لأنها سنة مَنْ؟ سنة الله، والله سبحانه ليس له نظير، وليس له شريك يُبدل عليه، أو يستدرك على حكمه بشيء.
بعد ذلك أراد الحق سبحانه أنْ يخبرنا أن المنهج الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه وفيه أوامره، وفيه نواهيه، وفيه سبل الخلاص من الخصوم، هذا المنهج لابد أنْ يٌحترمَ؛ لأنه سيُسلم الناس جميعاً إلى حياة أخرى يُستقبلون فيها استقبالاً، لا ينفعهم فيه إلا أعمالهم.
حياة أخرى يعيشون فيها مع المسبِّب سبحانه، لا مع الأسباب فإياكم أنْ تظنوا أن الله خلقكم ورزقكم وتنعمتُمْ بنعمه في الدنيا، وانتهت المسألة، وأفلت من عقابه مَنْ خرج على منهجه، لا بل تذكروا دائماً أنكم راجعون إليه، ولن تُفِلتوا من يده.


{يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا(63)}
سُئِل رسول الله كثيراً عن الساعة، والسؤال ظاهرة صحية إذا كان في الأمر التكليفي؛ لأن السؤال عن التكاليف الشرعية دليل على أن السائل آمن برسول الله، وأحبَّ التكليف، فأراد أنْ يبني حركة حياته على أسس إسلامية من البداية.
فعلى فرض أن الإسلام جاء على أشياء كانت مُتوارثة من الجاهلية فأقرَّها الإسلام، فيأتي مَنْ يسأل عن رأي الإسلام فيها حِرْصاً منه على سلامة دينه وحركة حياته.
لكن أراد الحق سبحانه أنْ يُهوِّن المسائل على الناس، فقال سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ...} [المائدة: 101].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوني ما تركتكم، فإنما أُهلك مَنْ كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم».
إذن: السؤال المطلوب هو السؤال عن الأمور التكليفية التي تهم المسلم، حتى وإنْ كانت من أمور الجاهلية، وقد أقرَّ الإسلام كثيراً منها، فالدية مثلاً في الإسلام جاءت من جذور كانت موجودة عند الجاهليين وأقرَّها الإسلام، وقد أمر الله تعالى المسلم بأنْ يسأل عن مثل هذه المسائل في قوله تعالى: {فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
أما السؤال عن الساعة، فالساعة أمر غيبي لا يعلمه إلا الله، فهو سؤال لا جدوى منه، لذلك لما سُئِل رسول الله: متى الساعة؟ قال للسائل: (وماذا أعددتَ لها) فأخذه إلى ما ينبغي له أنْ يسأل عنه ويهتمّ به.
وهذه الآية الكريمة {يَسْأَلُكَ الناس عَنِ الساعة...} [الأحزاب: 63] جاءت بعد معركة الإيذاء لله تعالى، والإيذاء لرسوله وللمؤمنين به، هذا الإيذاء جاء ممَّنْ لا يُؤمنون بالسماء، ولا يؤمنون بالله، ولا يؤمنون بالبلاغ عن الله بواسطة رسوله.
وإيذاء هؤلاء لله تعالى هو في الحقيقة إيذاء لأنفسهم؛ لأنه لا يصل إلى الله تعالى، والله يريد لهم الخير؛ لأنهم عباده وصَنْعته، فحين يخرجون على منهجه فإنما يؤذون أنفسهم، أما إيذاؤهم لرسول الله فقد آذوه صلى الله عليه وسلم في أهله وفي نفسه، فقد تعرَّضوا له صلى الله عليه وسلم بما يتأبَّى عنه أيّ إنسان كريم، آذوْه بالقول وبالفعل، ومع ذلك صبر صلى الله عليه وسلم، وصبر أصحابه، وقد أوذوا في أنفسهم وفي أموالهم.
والمتأمل يجد أن هذا الإيذاء مقصود وله فلسفة، فقد أراده الله تعالى ليُمحِّص المؤمنين، وليرى- وهو أعلم سبحانه- مَنْ يثبت على الإيمان؛ لذلك قال تعالى: {أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2].
وسبق أن أوضحنا أن الإيمان ليس كلمةً تُقال، إنما الإيمان مسئولية وعمل، ولهذا السبب امتنع كفار مكة عن النطق بكلمة الإيمان؛ لأنهم يعلمون حقيقتها، وهم أهل بيان وفَهْم للأساليب وللمعاني.
وثبات سيدنا رسول الله وصبره هو والذين آمنوا معه دليل على أنهم أجرَوْا مقارنة بين هذا الإيذاء في الدنيا من بشر له قدرة محدودة، وإيذاء الله سبحانه في الآخرة، وهذا إيذاء يناسب قدرته تعالى، ولا يمكن أنْ يفرّ منه أحدٌ.
إذن: نقول: إن للإيذاء فلسفةً مقصودة، وإلا فقد كان من الممكن أن يأخذ الله أعداء دينه أَخْذ عزيز مقتدر، كما أخذ قوم نوح بالطوفان، وقوم فرعون بالغرق، وكما خسف بقارون الأرض، لكن أراد سبحانه أن يعذب هؤلاء بأيدي المؤمنين وبأيدي رسول الله، وربما لو نزلت بهم أخذه عامة لقالوا: آية كونية كالزلازل والبراكين مثلاً؛ لذلك قال تعالى مخاطباً المؤمنين: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ...} [التوبة: 14].
ثم يُصبِّر الحق سبحانه نبيه ويُسلِّيه: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر: 77].
إذن: ردُّ الحق سبحانه على هذا الإيذاء جاء على نوعين: نوع في الدنيا بأنْ ينصرَ اللهُ نبيَّه عليهم، كما بشَّره الله بقوله: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45].
والآخر رَدٌّ أخروي يوم القيامة؛ لذلك قال تعالى: {يَسْأَلُكَ الناس عَنِ الساعة...} [الأحزاب: 63].
والسؤال الذي سُئِلَه رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متوجهاً إلى أمرين: الأول: إعجازي لأنهم كانوا يعملون من كتبهم وأنبيائهم بعض الأمور، فيريدون أنْ يُحرِجوا بها رسول الله حين يسألونه عنها، فلم يجدوا جواباً، وهم يعرفون أن رسول الله أُمِيٌّ لا يقرأ ولا يكتب، ولم يجلس أبداً إلى مُعلِّم، لكن الحق سبحانه كان يُسِعف رسوله ويُعلمه الجواب، فيجيب عليهم الجواب الصحيح، فيموتون غيظاً، ويتمحكون في أيِّ مسألة ليثبتوا لأنفسهم أن محمداً لا يعلمها.
من ذلك مثلاً سؤالهم عن أهل الكهف: كم لبثوا؟ فأجابهم الله تعالى: {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ وازدادوا تِسْعاً} [الكهف: 25] فقالوا: نحن نعلم أنها ثلاثمائة، فمن أين هذه الزيادة؟ وجهلوا أن تقويت المناسك الإلهية في الدين إنما يقوم على التقويم الهلالي لا على حركة الشمس؛ لأن مُقْتضى ما تعطيه لنا الشمس أن نعلم بها بداية اليوم ونهايته، لكن لا نعرف بها أول الشهر ولا آخره.
أما التوقيت العربي الهلالي، فله علامة مميزة هي ظهور الهلال أول الشهر، وإذا ما قارنْتَ بين التقويم الهلالي والتقويم الميلادي تجد أن كل سنة هجرية تنقص أحد عشر يوماً عن السنة الشمسية، فالثلاثمائة سنة الميلادية تساوي في السنة الهجرية ثلاثمائة وتسعة.
فكأنهم أرادوا تجهيل محمد، فنبَّههم الله إلى أنهم هم الجهلة. وعجيب أن يعترض اليهود على هذا التوقيت، مع أنه التوقيت العبادي لسيدنا موسى عليه السلام، ألم يقل سبحانه: {وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ...} [الأعراف: 142].
إذن: فقوله تعالى: {وازدادوا تِسْعاً} [الكهف: 25] فيه إعجاز أدائي بليغ، يدل على أنَّ التسْع سنين إنما جاءتْ زيادةً من داخل الثلاثمائة، وليستْ خارجة عنها.
ثم سألوه صلى الله عليه وسلم عن رجل جوَّال، فأنزل الله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين...} [الكهف: 83].
فكان ينبغي أن يلفتهم ذلك إلى صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يسألوا أنفسهم: من أين له هذا العلم، وهو الأميُّ الذي لم يجلس مرة إلى مُعلِّم؟
لذلك قلنا: إن الأُمية عَيْبٌ في كل إنسان، إلا أنها كانت شرفاً وميزة في رسول الله بالذات؛ لأنها تعني في حقِّ رسول الله أنه لم يُعلِّمه بشر كما اتهموه، إنما علمه ربه.
كذلك كانت الأمة الت نزل فيها القرآن أمة أمية، وهذا أيضاً شرف في حقها، فلو أن هذه الأمة كانت أمةَ علم وثقافة لقالوا عن الإسلام: إنه قفزة حضارية، لكنها كانت أمة أمية يسودها النظام القبلي، فلكل قبيلة قانونها ونظامها، ولكل قبيلة رئيسها، ومع ذلك خرج منهم مَنْ جاء بنظام عام يصلح لسياسة الدنيا كلها، إلى أنْ تقوم الساعة، وهذا لا يتأتَّى إلا بمنهج إلهي.
إذن: الأمية في العرب شرف، وعجزهم عن محاكاة القرآن، والإتيان بمثله أيضاً شرف لهم، فكوْن الحق سبحانه يتحدَّاهم بأسلوب القرآن دليل على عظمتهم في هذا المجال، وإلا فأنت لا تتحدَّى الضعيف إنما تتحدَّى القوي في مجال التحدي، فكأن تحدِّى الله العرب شهادة منه سبحانه بأنهم أفصح الخَلْق؛ لذلك جاءهم بمعجزة من جنس ما نبغوا فيه.
ثم يسأل اليهود رسول الله عن الساعة {يَسْأَلُكَ الناس عَنِ الساعة...} [الأحزاب: 63] وهم يسألون عن الساعة يعني: عن يوم القيامة؛ لأنهم ينكرونه، ومن مصلحتهم ألاَّ يكون هذا اليوم، حتى لا يقفوا موقف المساءلة والحساب على ما أجرموه في الدنيا من ظلم وشرك وعربدة وسَفْكٍ للدماء، ولَغْو في أعراض الناس.
ولو بحث هؤلاء قضية القيامة والحساب بالعقل- لا بنصوص القرآن- لوجدوا أنها أمر منطقي لابد أنْ يحدث، فمثلاً نحن عاصرنا الحزب الشيوعي في روسيا سنة1917، ورأينا كيف أخذوا الإقطاعين والرأسماليين وعذَّبوهم، وفعلوا بهم الأفاعيل، وصادروا ممتلكاتهم جزاءً لهم على ظلمهم للناس، وكنا نقول لهم: نعم هذا أمر منطقي أنْ تقتصَّ من الظالم، لكن ما بال كثير من الظَّلمة الذين ماتوا أو لم تدركوهم وأفلتوا من قبضتكم؟
بالله، لو جاء شخص ودلّكم على مكان أحد الظلمة هؤلاء، ألستم تحمدون له هذه المساعدة؟ فكيف به لو قال: بل سأحضره وأحاسبه وأقتصّ منه، أليست هذه إعانة لكم على مهمة الانتقام من الظالمين؟
لذلك نقول: كان من الواجب أن يكون الشيوعيون أول الناس إيماناً بيوم القيامة وبالبعث والحساب ليتداركوا مَنْ أفلت من أيديهم.
شيء آخر: ألستم تضعون- في أيِّ نظام من أنظمتكم الوضعية- القوانين المنظمة؟ ما معنى القانون: القانون قواعد تحدد للمواطن ما له وما عليه، أليس في قوانينكم هذا مبدأ الثواب للمحسن، والعقاب للمقصر؟
إذن: كل مجتمع لابد أن تكون فيه عناصر خارجة على نظامه، وتستحق العقوبة، فمَنِ استطاع أنْ يُدلِّس على المجتمع، وأنْ يداري جريمته ما حظه من العقوبة، وقد استشرى فساده وكَثُر ظلمه؟
إذن: لابد أنْ نؤمن بقدرة أخرى لا يَخْفَي عليها أحد، ولا يُدلِّس عليها أحد، ولا يهرب منها أحد، قدرة تعرف الخفايا وتفضحها وتحاسب أصحابها.
هذه القضية لابد أنْ تسوقك إلى فطرية الإيمان بالله تعالى، وأنه سبحانه خبير عالم {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إلا فِي...} [الأنعام: 59].
لماذا إذن تنكرون القيامة وأنتم في أنظمتكم الدنيوية تُجنِّدون الجواسيس والمخابرات، وتُحْصُون هَمْسَ الناس لمعرفة الذين يحتالون في ألاَّ يراهم القانون؟ أليس من فضل الله عليكم أنه سبحانه يعلم ما خَفِي عليكم ويقتصّ لكم من خصومكم؟
فقضية القيامة والحساب واضحة بالفطرة؛ لذلك تجد أن المنكرين لها هم الذين أسرفوا على أنفسهم ويخافون ما ينتظرهم من العقاب في هذا اليوم، ولا يملكون إلا إنكاره وعدم الاعتراف به، وكأن هذا الهروب هو الحل.
وسورة الكهف تعطينا نموذجاً لهؤلاء، وهو صاحب الجنة الذي قال: {وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً...} [الكهف: 36] بعد أنْ أسرف على نفسه وجحد نعمة الله عليه، ولما تنبَّه وراجع فطرته قال: {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً} [الكهف: 36].
فالتكذيب بيوم القامة هو الأغلب والآكد والشكّ في {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي...} [الكهف: 36] يعني: وعلى فرض أَنِّي رُددْتُ إلى ربي يوم القيامة فسوف يكون لي عنده أفضل مما أعطاني في الدنيا، فكما أكرمني هنا سيكرمني هناك.
وهذا اعتقاط خاطيء وفَهْم أحمق، فالله تعالى لا يكرم في الآخرة إلا مَنْ أكرم نفسه باتباع منهجه في الدنيا، ومَنْ لم يكرم نفسه هنا بمنهج الله لا يكرمه الله في الآخرة.
لذلك كثيراً ما نسمع: دَعوْتُ فلم يُستجب لي، خصوصاً السيدات، جاءتني إحداهن تشتكي أنها توجهت إلى الله بالدعاء، ومع ذلك البنت لم تتزوج والولد كذا والزوج كذا. فكنت أقول لها(كتر خيرك) أولاً أنك عرفت أن لك رباً تفزعين إليه وقت الشدة كما قال سبحانه: {فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ...} [الأنعام: 43].
إنما أسألك: هل أنت أجبت الله أولاً فيما طلبه منك كي تنتظري منه أنْ يُجيبك إلى ما طلبتِ؟ أأجبت الله في شعرك هذا؟ أأجبتِ الله في(شفايفك) وتغييرك لخِلْقة الله؟ فكانت لا تجد جواباً، إلا أنْ تقول: والله أنا قلبي(صافي) ولا أوذي أحداً.. إلخ.
إذن: أخذتم على الله أنكم دعوتُم فلم يَسْتجب لكم، ولم تأخذوا على أنفسكم أنه سبحانه دعاكم أولاً وناداكم فلم تستجيبوا لندائه، احرصوا أولاً على إجابة نداء الله، وثقوا أنه سبحانه سيجيبكم.
نعود إلى ما كنا بصدده من الحديث عن السؤال في القرآن الكريم، فسؤالهم عن الساعة إمَّا ليتأكد السائل أنها ستحدث، وإما لأنه يستبطئها ويريدها الآن.
ومادة السؤال جاءت كثيراً في كتاب الله؛ لأن القرآن لم ينزل على رسول الله جملةً واحدة، إنما نزل مُنجَّماً حَسْب الأحداث ليعطيهم الفرصة للسؤال، وجاء السؤال إما لتحدي رسول الله، وإما للاستزادة من أحكام الله التي أنزلها على رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا جاء مِمَّنْ عشقوا الإيمان، فأحبوا أنْ تُبني حركة حياتهم على هدى الإيمان.
حتى المسائل التي كانت لها جذور في الجاهلية راحوا يسألون عنها، لماذا، مع أن الإسلام أقرها؟ قالوا: لأنهم أرادوا أنْ يَبْنوا أعمالهم على العبادة، لا على العادة الجاهلية.
والقرآن حينما عرض لهذه الأسئلة قال مرة: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى...} [البقرة: 222] فرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما سُئِل هذا السؤال لم يَقُلْ: هو أذى؛ لأن الجواب ليس من عنده، إنما هو مُبَلِّغ عن الله، والله هو الذي يقول، فقال {قُلْ هُوَ أَذًى...} [البقرة: 222] فكلمة قُلْ هذه من مقول الله تعالى، وأنا أقولها كما هي.
لذلك نعجب ممن ينادي بحذف كلمة {قلْ} من القرآن، بحجة أنها لا تضيف جديداً للمعنى في حين أنها دليل على صدق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ودليل على أن ما جاء به لس من عنده إنما من عند الله وهو مبلغ فحسب فربهُ قال له قل وهو يقولها كما هي {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو..} [البقرة: 219] وفي موضع آخر: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ والأقربين...} [البقرة: 215].
لكن قُلْ تأتي مرة مقترنة بالفاء، ومرة أخرى غير مقترنة بها، فلماذا؟ هذا مَلْمح إعجازي في أداء القرآن، لأن الجواب بقُلْ يعني أن السؤال قد حدث بالفعل، مثل {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج...} [البقرة: 189].
أما الجواب حين يقترن بالفاء، فإنه يعني وجودَ شرطٍ، فالسؤال لم يحدث بالفعل، إنما سيحدث في المستقبل، كما في قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} [طه: 105].
والمعنى: إن سألوك في المستقبل عن الجبال فقُلْ ينفسها ربي نَسْفاً، فالجواب مُعَدٌّ مسْبقاً لسؤال لم يُسأل بَعْد، لكنه لابد أنْ يُسأل، وأنْ يقع منهم، وهذا وجه آخر من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم، وإلا فقد كان بإمكانهم ألاَّ يسألوا، لكن هيهات أنْ ينقض أحد كلام الله، أو ينقض علمه تعالى.
ما دام الله قال فلابد أنْ يقولوا، وهذه المسألة أوضحناها في قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ما أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ وامرأته حَمَّالَةَ الحطب فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ} [المسد: 1-5].
فحكم الله تعالى على هذا الكافر العنيد أنه سيموت على كفره، وسيكون مصيره وزوجته النار، وقد سمع أبو لهب وامرأته هذه الآية، وعرفوا صِدْقها، لكنه مع ذلك لم يؤمن ولو نفاقاً، وقد آمن مَنْ هو أشدُّ كفراً وعناداً، أمثال: عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد وغيرهما.
لكن الذي حكم وأخبر أنه لن يؤمن يعلم أنه سينتهي إلى هذه النهاية مهما حذَّره وأنذره؛ لذلك كان أبو لهب مثالاً لغباء الشرك، فلو أنه جاء في مَحْفل من محافل قريش بعد نزول هذه السورة، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله لأحرجَ رسول الله وكذَّب القرآن، لكن لم يحدث شيء من هذا، وما كان ليحدث بعد أنْ قال الله، مع أنه حُرٌّ مختار.
وفي آية واحدة من كتاب الله وردت الإجابة عن السؤال غير مُصدَّرة(قُلْ) ولا(فقل)، وهي قوله سبحانه: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ...} [البقرة: 186]، لماذا؟
قالوا: لأن السؤال هنا عن ذات الله تعالى؛ لذلك جعل الجواب منه سبحانه مباشرة بلا واسطة؛ لأن المقامَ مقامُ سؤال عن قريب مباشر لك، كذلك جاءتْ الإجابة مباشرة.
هذا عن السؤال، أما عن الساعة التي سألوا عنها، فكلمة الساعة حين نطلقها في هذا العصر نريد بها الآلة المعروفة التي تحدد أجزاء الوقت من ليل أو نهار بالسوية، فليس هناك ساعة أكبر من ساعة.
والعرب حينما اخترعوا الساعة أو المزولة، كانت ساعة دقَّاقة بالماء، وهي عبارة عن خزان يقطر منه الماء قطرة قطرة، وكلما نزلت قطرة الماء حرّكتْ عقارب الساعة بالتساوي، وسُمِّيت ساعة بالذات؛ لأن الساعة هي أقرب أجزاء الوقت لليل أو للنهار، وبعد ذلك عرفنا الدقيقة والثانية والجزء من الثانية.
وقد حرص العرب بالذات على حساب الوقت، وفكَّروا في آلة تضبطه؛ لأن الإسلام يقوم على عبادات موقوتة لابد أنْ تُؤدَّي في وقتها، من هنا اخترعوا الساعة.
وكأن الحق سبحانه استعار فطرة البشرة منهم، حين سَمَّي القيامة(الساعة) فالساعة التي تنتظرونها هي آلة مواقيتكم في الحركة؛ لذلك قال شوقي رحمه الله:
دَقَّاتُ قَلْبِ المْرءِ قَائِلةٌ لَهُ *** إنَّ الحَياةَ دَقَائِقُ وثَوانِ
والحق سبحانه يقول: {وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة....} [الروم: 55] أي القيامة: {يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ...} [الروم: 55] أي ساعتكم وآلتكم التي تعارفتم عليها لضبط الوقت، فجمع سبحانه بين الساعة الفاصلة بالقيامة، وبين الساعة التي هي جزء من الليل، أو من النهار.
والمعنى: {يَسْأَلُكَ الناس عَنِ الساعة..} [الأحزاب: 63] يعني: أتوجد أم لا توجد؟ وإذا كانت تُوجَد، قالوا: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [الأعراف: 70].
الحق سبحانه تكلَّم في السؤال عن الساعة في موضعين: هنا {يَسْأَلُكَ الناس عَنِ الساعة قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً} [الأحزاب: 63].
وفي سورة الشورى: {الله الذي أَنزَلَ الكتاب بالحق والميزان وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ} [الشورى: 17].
ونلحظ أولاً أن كلمة(قريب) جاءت بدون تأنيث، والساعة مؤنثة، فلم يَقُلْ قريبة، قالوا: لأن المراد وقت قيامها: وما يدريك لعل وقت قيامها قريب.
وقال اللغويون: إن(قريب) على وزن فعيل، وهذا الوزن يستوي فيه المذكَّر والمؤنث، كما في قوله سبحانه: {وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4].
ثم في الآية الأولى جاء بالفعل تكون، فقال: {تَكُونُ قَرِيباً} [الأحزاب: 63] وفي الأخرى قال:(قريب) لماذا؟ قالوا: لأن السؤال مرة يكون عن أصل الوجود، ومرة يكون عن شيء تابع لأصل الوجود، وفي الدراسات النحوية نُدرِّس للتلاميذ كان وأخواتها، وهي فعل مَاضٍ ناقص، يرفع المبتدأ وينصب الخبر، وقد تأتي كان تامة تكتفي بفاعلها كما في {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ...} [البقرة: 280] يعني: إنْ وُجِد ذو عُسْرة.
إذن: إنْ أردتَ الوجود الأول فهي تامة، وإنْ أردتَ وجوداً ثانياً طارئاً على الوجود الأول فهي ناقصة، كما لو قُلْتَ: كان زيد مجتهداً، فأنت لا تتكلم عن الوجود الأول لزيد، إنما تتكلم عن شيء طرأ على وجوده، وهو اجتهاده، وهذه هي كان الناقصة؛ لأن الفعل ينبغي أنْ يدلَّ على زمن وحدث، والفعل كان دلَّ على زمن فقط، فاحتاج إلى خبر ليدل على الحدث، فكأنك قُلْتَ: اجتهد زيد.. في الزمن الماضي.
كذلك نقول في الوجود الأول وكان التامة: (كان الله ولا شيء معه) هذا هو الوجود الأعلى، فإنْ أردتَ شيئاً آخر مُتعلِّقاً بهذا الوجود الأول تقول: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 152].
فالحق سبحانه في هاتين الآيتين يردُّ على الذين يسألون عن الساعة، إما لأنهم ينكرونها وجوداً، أو يؤمنون بها، ويسألون عن وقتها، فقال مرة: {لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً} [الأحزاب: 63] ومرة {لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ} [الشورى: 17].
كلمة {وَمَا يُدْرِيكَ...} [الشورى: 17] معنى الدراية: الإعلام، كما نقول: هل دريْتَ بالموضوع الفلاني، يعني: علمتَ به.

13 | 14 | 15 | 16 | 17 | 18 | 19 | 20